وصلت إلى مقهى أبو عمر باكراً اليوم، فما زال هناك عشرون دقيقة لتطرق السّاعة الثّانية، جلست أنتظر أحمد ويوسف للقائنا المعتاد لشرب القهوة. وأنا جالس، وجدت نفسي أعبث بالخاتم الّذي في اصبعي، نظرت إليه وبدا لي الخاتم كأنّه يسخر منّي، يذكّرني بالعهد الّذي اتّخذته على نفسي عندما أخذت سلمى زوجة لي. يذكّرني بالمسؤوليّات الّتي أهملتها في منزلي. ويتسلّل الذّنب إلى زوايا قلبي مرّة أخرى،عندما أتذكّر أنّني لم أكن موجودا عندما تفوّه ابني كريم بأوّل كلماته، أوعندما مشى أوّل خطواته. ينقطع حبل أفكاري عند وصول أحمد ويوسف سويّاً.
“ليش مكشّر يا أبو كريم؟” سألني يوسف.
“شو بدّك فيّي إنت هلّأ، جيب القهوة وتعال” أجبته.
فيما كان يوسف يحضر القهوة، جلس أحمد بجانبي وعيناه تشي بسعادة لم أرها من قبل.
“ايمتى بدك تعرّفنا على العروس أبو حميد؟” قلت له ضاحكاً.
“أيّ عروس يا عمّ، اليوم اجتلي أوراق القبول للجامعة اللي كنت بحكيلكم عنها!”
لم أكد أعبّر عن سعادتي لأحمد إلّا ووجدت أنّ يوسف قد قفز من ورائي لتقع القهوة الّتي كانت بيده ليعانق أحمد ويهنّئه على نجاحه.
وفجأة انطفأ النّور الّذي كان في عين أحمد قبل قليل والتقت عيني بعينه. حاول أن يغطّي عن همّه بابتسامة حين بدأ يقول “طبعاً لازم ألاقي شغل تاني فوق هاد الشّغل وأبيع السّيّارة وأتداين…” ولكن صوته أفشى بكلّ ما لم يريد قوله.
استأذن أحمد منّا ولمحت يده تُخرج علبة السّجائر الخاصّة به.
بقينا أنا ويوسف وبيننا جدار من الصّمت، فكسرت السّكون سائلاً: “كيف صحّة الوالد صارت؟”.
لم أقصد تذكير يوسف بالعبء الّذي يلحقه أين ما ذهب، وندمت على السّؤال فور ما وجدت وجهه قد اسودّ من الأسى.
“الحمد لله دائماً وأبداً، صارله يومين بالعناية المركّزة ما فتح عيونه، والحجّة لا راضية لا تاكل ولا تشرب…بس الحمدلله”.
“ربنا يفرّج عنّك”.
“اف، هاي تالت مرّة برنّ عليّ المستشفى اليوم…محتار إيش أقلهم..بس الله كريم”.
“الله يشافي ويعافي يا ربّ، بس خلّيك متفائل، إن شاءالله خير”.
وهكذا انتهى الكلام، وودّعنا بعضنا البعض. وجدت نفسي خلف المقعد مرّة أخرى، متذكّراً الوعد الّذي أعطيته لابني بقراءة قصّة له ما قبل النّوم.
دخل أوّل زبون قائلاً: “جهة خلدا لوسمحت”.
“تؤمر سيدي”.